30/12/2021

محميات في ظل النسيان

 

تعد الأراضي الرطبة في عدن من أهم المحميات في جنوب شبه الجزيرة العربية. تتكون هذه الأراضي من خمس محميات رطبة هي: بحيرات البجع، والمملاح في خور مكسر، ومستنقعات كالتكس/الحسوة في المنصورة، ومصب الوادي الكبير، وخور بير أحمد في البريقة، تغطي جميعها مساحة إجمالية تقدر بحوالي 26 كيلومتر مربع. تتغذى هذه المحميات بمياه المحيط العميقة الباردة والغنية بالعناصر الغذائية والتي تُدفع إلى السطح بفعل التيارات الصاعدة في خليج عدن وهذه ميزة حاسمة في تعديل مناخ المنطقة.

ولكن غالباً ما يتبادر إلى الذهن تساؤل حول إهمال محميات الأراضي الرطبة في عدن برغم أهميتها وبيئتها الحدودية فائقة الجمال التي من الممكن أن تنمو حولها نشاطات اقتصادية مميزة وخاصة في مجالات السياحة البيئية بسبب ملائمة هذه المحميات لأنواع متعددة من الطيور المهاجرة. تشير الدراسات إلى أن السبب في عبور أسراب من الطيور المهاجرة أو استيطانها في الأراضي اليمنية عائد إلى التنوع البيئي للمواطن الطبيعية من جبال وهضاب وسهول وسواحل.

بين منتصف أكتوبر وحتى منتصف فبراير، وفي أجواء شتوية معتدلة يحط سنوياً في عدن آلاف الطيور من 168 نوعاً مختلفاً من الأنواع المائية والخواضة بحسب "دراسة حصرية لطيور محافظة عدن خلال الهجرة الصيفية والشتوية من عام 2005 إلى عام 2006" قام بها الباحث د. فضل عبد الله ناصر البلم من جامعة عدن. تتحرك هذه الطيور في أسراب مهاجرة بين آسيا وأوروبا من جهة، وأفريقيا على الجهة الأخرى، ويجذبها إلى عدن غنى أراضيها الرطبة بالأسماك الصغيرة بالإضافة لكونها بيئة بعيدة عن التيارات البحرية، والتقلبات المناخية الحادة. غطّت دراسة د.  البلم 27 موقعاً حيوياً في مناطق مختلفة وأحصت 29 نوعاً من الطيور المقيمة و16 نوعاً مهاجراً صيفياً و123 مهاجراً شتوياً.

يعد ساحل أبين وبحيرات عدن الثلاث المحاذية للجسر البحري ومحمية الحسوة أماكن جيدة لمشاهدة الطيور الخواضة الصغيرة مثل عائلة الطيطوي والزقزاق. وأشهر تلك الأنواع المهاجرة هما طائرا النحام الوردي القصير والبلشون أو اللقلق. كما في محمية الحسوة يتواجد عدد كبير من عائلات أبو منجل الأسود، والنحام بنوعيه الكبير والصغير، ودجاج الماء. غير أن الكم الهائل من هذه الطيور لم يعد يظهر في الآونة الأخيرة.

تتعدد المنافع الاقتصادية والبيئية والسياحية وحتى الإنسانية لهذه الأراضي الغنية. وتعد تجربة الطبيب عصام الفاتش، المدير السابق لمركز علاج مرضى كوفيد-19 التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر، في ارتياد هذه المحميات برفقة كاميرته المثال الأبرز لفوائدها على المستوى النفسي والشعوري لما تمنحه للبشر من سكينة وفرصة للتأمل والهدوء. كلما عانى الفاتش تحت وطأة العمل والضغوط النفسية المرافقة له ورؤيته لمعاناة المرضى، كانت رحلة للقاء طائر الفلامينجو كافية لتبعث به المزيد من الطاقة الإيجابية والقدرة على التحمل.

(فيديو: د. عصام الفاتش)

https://youtu.be/crG_7FvXNX4

ولكن رحلات الفاتش لها وجه آخر اكتشفه لدى زيارته محميات الطيور في أوروبا واطلاعه على كم الاهتمام والعناية الذي تلقاه هذه الطيور. تتبدى هنا في هذه التجربة الكوارث البيئية والحضارية والعلمية التي تعاني منها محميات الطيور في عدن التي تتعرض للقتل وتعاني من تخريب بيئاتها الطبيعية وتدمير أعشاشها.

"إذا تلوثت [الأراضي الرطبة] أو انعدم الغذاء فيها لأسباب عديدة منها التلوث وغيره أو الردم أو غيرها فهذا سيؤدي إلى غياب الطيور". هذا ما يراه الخبير البيئي إبراهيم أحمد منعيم مدير دائرة الرصد والتقييم البيئي في الهيئة العامة لحماية البيئة في عدن. يؤكد منعيم، من وجهة نظره كخبير بيئي، أن الأرضي الرطبة عبارة عن مرابي حاضنات لبيوض الأسماك وصغار الأسماك، وهي بيئة للكثير من القشريات مثل السرطان الأزرق والسرطان العقار (البورتوكاس). وهذا النظام يوفّر الغذاء للأسماك التي تصبح بدورها غذاء للطيور. وعندما تترك الطيور مخلفاتها تعود دورة العناصر الغذائية للنظام البيئي. لذلك، غياب هذه الأراضي سيؤدي إلى غياب الطيور.

(فيديو: إبراهيم منعيم)

https://youtu.be/WoHy0VM8qXw

 

نتيجة للجهل بأهمية الأراضي الرطبة، قد تُعامَل هذا المسطّحات المائية على أنها عبارة عن فراغ، ولكن يجب أن نفهم بأن هذا الفراغ لديه وظيفة بيئة هامة.

تقول واحدة من المعلومات الهامة التي تغيب عن كثيرين أن هناك أنواع من القروش تدخل باتجاه الميناء حتى تصل الى الأرضي الرطبة لتضع مواليدها بشكل كبير. وبحسب منعيم، لو حدثت هذه الظاهرة في دولة أخرى في العالم لأنتجت ضجة كبيرة ولتسابق العلماء لدراستها ومحاولة الحفاظ عليها.

بعيداً عن النواحي البيئية المتمثلة في محميات الطيور وما قد يكون لها من عائد اقتصادي هام عبر السياحة البيئية، للأراضي الرطبة فوائد اقتصادية أخرى. المملاح كلمة عامية يطلقها أهل عدن على أحواض الملح الكبيرة التي تقع في أطراف المدينة ويمتلك مملاح الأراضي الرطبة خصائص معينة تتمثل في وجود طبقة طينية تحت سطحية غنية تجعل من موقعه مناسباً لإنتاج الملح البحري. ويعد قطاع الملح في عدن من المعالم الاقتصادية التي ارتبطت بذاكرة عدن الاقتصادية؛ فعدن الأولى على مستوى شبه الجزيرة العربية التي عملت في صناعة الملح منذ عام 1886م.

كما أوضح منعيم بأن الأراضي الرطبة تشهد الكثير من التعديات مثل عمليات الردم على مساحات شاسعة سواء تلك المبررة مثل المشاريع الاقتصادية الكبيرة التي تصب في خدمة المصلحة العامة أو العمليات غير المبررة مثل بناء منازل أو مشاريع خاصة وغيرها. بعض التقديرات تضع المساحات التي رُدمت في الطريق البحري بين عدن والشيخ عثمان أو في المساحة من جزيرة العمال إلى منطقة كالتكس ضمن حدود نصف مليون متر مربع.

كما أن لتلك المساحات "الفارغة" في الأراضي الرطبة وظيفة أخرى هامة تتمثل في حماية المناطق المدينية المأهولة خلفها من مخاطر البحر ذاته. تنشأ الموجات المدّية (ما يعرف بمصطلح "تسونامي") عادة عند حدوث حركات زلزالية قوية في قاع البحر، وفي حال حصول موجة كهذه قريب سواحل عدن فإن هذه الأراضي تستطيع امتصاص معظم الصدمة الناشئة عن تقدم مياه البحر. ولكن عندما يقوم الإنسان بردم هذه الأراضي بغرض البناء فوقها فإنه بالتالي يتقدم باتجاه البحر ويترك أي منشآت قائمة على الخط البحري عرضة لضربات الأمواج العنيفة.  

ومن جهة أخرى، ما تزال مشكلة تصريف مياه المجاري تؤرق جميع الخبراء بحسب منعيم. هذه المياه التي تصب في البحر من منطقة "كالتكس" غير معالجة وهي بالتالي تحتوي على الكثير من الملوثات والعناصر الثقيلة والكيميائية. يؤثر هذا التلوث على جميع الكائنات في المنطقة وقد يصل تأثيره حتى إلى صناعة الملح مما يضيف عاملاً اقتصادياً آخراً على هذا المستوى.  لذلك يرى المنعيم أن مشاكل الأراضي الرطبة مترابطة جميعها؛ وبالتالي، لا يمكننا النظر إلى البيئة البحرية أو الأراضي الرطبة أو تواجد الطيور المهاجرة فيها بمعزل عن التلوث الجاري أو التعديات العديدة أو عن صناعة الملح وارتباط هذه جميعها بالتغيرات المناخية في المنطقة.

برغم من الفوائد العديد للأراضي الرطبة ضمن النظام الإيكولوجي العام للمنطقة بدءاً من المواد الغذائية والبناء والتنوع البيولوجي والسيطرة على الفيضانات وتغذية المياه الجوفية والتخفيف من آثار تغير المناخ وتوفير المحميات للطيور المهاجرة وتنويع فرص الاستثمار الاقتصادي والسياحي، لماذا برأيكم/ن لا تزال محميات الأراضي الرطبة في عدن في ظل النسيان؟

* أُنجزت هذه المادة ضمن إطار برنامج تدريب ضم صحافيين من مؤسسات إعلامية يمنية من تنظيم "أوان" وبدعم من "منظمة دعم الإعلام الدولي (IMS)".